الاثنين، 3 فبراير 2020

أبقراط ... د.إبراهيم النهر


بعد أن أنهيت سنة الامتياز في مستشفيات جامعة الأسكندرية، وتحقق الحلم الذي طالما حلمت به، وطالما خضت الصعاب من أجل الحصول عليه، وهو لقب طبيب.

عدت إلى قريتي لأستجم بعض الوقت، وأشبع من النظر إلى وجهها البهي، وأستمع إلى كلامها الندي، وأقبل رأسها ويدها، فكانت تجلس بجواري على مائدة الطعام الذي أعدتها بيديها وهي تربت علي ظهري وتدعو لي بدوام النجاح والصحة.

وكنت أظن أني سأمكث باقي العمر بجوارها ولو شاءت تحت أقدامها، فكم أحن إلى حكاويها والتي طالما كانت تسردها لي كلما خلت بي، وما بها من مواعظ وعبر تشحذ الهمم وتحفز على الصبر على تحصيل العلم.
لكن إقامتي في بستان عطفها وكنف حنانها لم يدم طويلا كما كنت أتخيل وكأنه قد كُتب عليّ العيش بعيدا عنها، ولكنها وإن لم تكن تعيش بجواري وبالقرب مني فإني أعيش بداخلها وتعيش بداخلي وقد تشَبَّع دمي بحبها، وكيف لا؟ وهو في الأصل دمها ونبضها، إنها الأم يا سادة.

أيام قليلة وجاء قرار تكليفي بوحدة صحية ريفية بمحافظة كفر الشيخ، فحمدت الله إنه لم يكن بصحراء مطروح أو الوادي الجديد أو غيرها من المناطق النائية.

وفي الأسبوع الأول وفي الصباح الباكر لأحد الأيام استيقظت على طرق شديد على باب السكن، فقمت مفزوعا نحو الباب وقبل أن أغسل وجهي فلم يكن هناك فرصة لعمل مثل ذلك في ظل هذا الرزع والهبد المستمر على باب السكن المتهالك، وإلا لم يصمد أمام مطارقهم كثيرا، والذي في الغالب أنه قد تهالك بسبب أمثال هذه الهجمات الرعناء، من أمثال هؤلاء البشر الذين لا يراعون خصوصية الطبيب، ويتعاملون معه وكأنه كلأ مشاع وقتما طلبوه وجدوه.
فتحت الباب لأجد حشد بشري قد حجب الرؤية، ولم يتركوا لي فرصة للإستفسار، بسرعة غيرت ملابسي ونضحت وجهي بالماء ورجلت شعري في الطريق، وفي كبينة السيارة النصف نقل سألت كبيرهم الذي ركب بجواري، ما الموضوع؟
فأجابني: بصراحة يا دكتور الرجل تُوفِّي ولكننا لم نستطع أن نصارح أبناءه وأبناء أخيه بهذه الحقيقة لأنهم كما ترى يتصفون بالغشم، والمطلوب منك أن توصل لهم هذا الخبر باسلوبك.
فقلت له يا سلام، وأي اسلوب يجدي مع أمثال هؤلاء؟ الله يطمئنك، والله المستعان على ما تصفون.
وعندما وصلنا البيت، وجدت حشود كبيرة من الناس، يستعدون على خجل لمراسم المأتم وصوان العزاء، والنساء قد ارتدت الأسود وفي انتظار الإشارة لبدء اللطم والنياح، والذي سيعطي الإشارة لهذا البدء المحرم والمقيت هو السيد معالي الدكتور والذي يمثله أنا.
ولك أن تتخيل ما يشعر به طبيب في أول تعيينه وأمام أول حالة سيصدر حكمه عليها بالوفاة وما سيتبع هذا القرار من تداعيات، أو أن الحالة مازالت على قيد الحياة وما يتبع هذا القرار من تداعيات أخرى أيضا.
دخلت غرفة الحالة وسط نحيب البكاء وتوسلات بعدم الحكم بموته، وكأني _حاشا لله_ انا الذي أحيي وأميت، لأجد الحالة في غيبوبة تامة، ولكني عندما تحسست النبض وجدته مازال ينبض، ومن القصة تبين لي أنه مريض سكر من النوع الأول الذي يتم تنظيم سكره عن طريق الأنسولين.
فأخرجت جهاز قياس السكر وقست السكر فوجدته منخفضا جدا، فشخصت الحالة بأنها غيبوبة هبوط السكر بالدم سببها جرعة كبيرة من الأنسولين، أو جرعة أنسولين مضبوطة لم يتبعها وجبة طعام.
وتم التعامل مع الحالة باعطائها مائة مليلتر من محلول السكر المركز عن طريق الحقن الوريدي، والمثير في القصة أنه لم يمض إلا خمس دقائق من سريان المحلول إلا والمريض قد فاق افاقة تامة وجلس على حافة السرير ووضع رجلا على رجل وطلب من أحد ذويه أن يشعل له لفافة تبغ، وسط ذهول المعزِّيين أقصد الحاضرين، وصرت أنا أبقراط عندهم.

د. إبراهيم مصري النهر

هناك تعليق واحد: