الاثنين، 7 أكتوبر 2019

لقاء .. قصة قصيرة.. إيمان أحمد صالح

لقاء
                            ********************
إلى ذلك الحلم الشريد..
سنلتقى يوما ..سعداء..
وسيرتدى الألم ثوب الضياع..
                            ********************
كعادتها تردد لحن أغنية قديمة هى وأبن عمى ذو العامين
وتهدهده فلا تتذكر الكلمات وتنسجم مع الصغير بأنشودة كانت كل كلماتها بطة وقطة..!
  فهو لايعلم سواهم وهى تشدو الألحان بأحساس الذاكرة الشريدة
بعدما اصيبت بفقدان الذاكرة قصيرة المدى ..نفذ مخزون الذكريات قبل أعوام..
و نصحنا الطبيب بألا يذكرها أحد بأحزانها..
كنا نتفادى دائما ألا نذكر أن أبي و جدى قد وافتهم المنية منذ أمد بعيد  ..
جلست على أعلى منزلنا المتواضع السعيد  والذى تكسو جدرانه شجيرات الريحان والفل المتدلى من اعلى السطح..و يطل على حى شعبى قديم.. ومن أمامه المصباح الأزرق المرصع بالكهرمان
..لم ترحمها نظرات العابرين وهمساتهم السخيفة
بأن بيتنا العتيق ملئ بالأشباح وأنه قد  مسها جنى.. غمز ولمز ..
... فلم يعى قلبها اى نوع هذا من سواد القلوب وصغار العقول وقلة المروءة.. !
فتبتسم لهم كالأطفال... ثم تتأمل بلا ملل النجوم...فى ضيافة القمر تتبعه.. ساهرة .. تراقب طوال الليل صوت الهدهد
و تشرد مع صوت البومة فتطير تبحث  عنها فتجدها  خلف منزلنا عند الشجر العتيق.. كرنفال ...تجتمع فيه كل الطيور..
كانت جدتى تبتهج لرؤية الصغار كلهم   
سواء عندها
جدتي الحنونة أم للكل دون أن تعرف احدا منهم..
وأحيانا لا ترحمها الذكريات وتحدثني  كأني والدي رحمة الله
وتلومني كثيرا عن الغياب..
"أين كنت يا مراد ؟"
"لماذا أنتظرك.. كما وعدتني و لا تأتي ؟!"
فأبتسم معتذرا لها..كأني أبي ..
"تعلمين ياأمي .. أسافر إلي العمل .."
فكان أبي يعمل بأحدي  الدول الأوربية..
وكنا نخفي عليها ذكري وفاته ..حتي لا تنهار..

زرعناها وسط الذكريات السعيدة.. تتعرف على الحياة من جديد
تهيم مع سرب الحمام وتلوح له حتى يعود الى البرج..
ثم تعود حاملة صديقها العزيز.. فرد الحمام العجوز و الأعزب
إلى شجيرتها المزروعة على سطح بيتنا قبل  ان أولد .. كان عزيز إليها .. فقد غرسته هى وجدى سويا فى أول وأخر عام من زواجها ..من جدى الشهيد ...
كانت تقضى يومها كله هناك تنتظر عودته ...
كانت تشبه صديقها الزاجل... سليمة النية .. طيبة القلب  .. لا تفارق وجهها البسمة .. تحمد ربها على السراء و الضراء ..
مخلصة..
كرست حياتها لتربية أبى وعمى .. ورفضت الزواج وفاءا لجدى..
وهذا ما ربت تؤامها عليه  ..
حتى صاروا رجلا تتكئ عليهم ..
فكان أبي طبيب  يعيد الأمل والنور لمرضى العيون ..
وعمى طبيب ..يداوى جرح القلوب ويرمم ماأفسده غدر البشر و  ألم الأيام..
زرعت فيهم حصاد أيامها وتضحياتها ..
فترعرعوا على حب الخير  ومساعدة المحتاج..
لم تكن أمور حياة جدتى على ما يرام ..   
فقد تحملت الكثير ..
حتى لها الفضل بما نحن فيه من نعيم ...
لكن لا ترحمها الذاكرة الغادرة أحيانا ..
عندما ازورها تطير بسعادة تحضر لى مأكل  لتضايفنى.. فتخونها...الذاكرة...  فتبكى لا تدرى كيف تصنع الأشياء.. 
فأحاول ألهائها  ..
لتأخذنى فى جولة كعادتها.. لتروى شجيرات الياسمين والفل والريحان ..
فأنتشى من رؤيتها  سعيدة ..
فلا أدرى من منهم يروى الأخر ويرتوى ..!
تلك المتعة التى سكنت أحساسها...وأصبحت سلوك...بمرور الزمن..

ثم تطعم صديقها الزاجل  بعض من وريقاته على سبيل المزاح .. فيمتنع .. 
ذلك الصديق النادر وجوده .. ماتت رفيقته أثناء حادثة صيد ..فقد على آثارها قدرته على  الطيران .. فزهد جنسه .. وصاحب جدتى .. وزاد وزنه كالدجاجة !
وفى يوم عجيب لن أنساه..
جدتى  تنادى .. "سعد سعد"
"أصعد إلى يا حبيبي "
أستدعتنى بأسمى الذى لم أسمعه منها منذ سنين..
تعجبت فرحا..
"حاضر يا جدتى "
طرت إليها أذ وجدتها كالعروس فى أبهى حلة .. وضفائرها الطويلة زادتها ملائكية ..
أنطلق لسانى .. "ماأحلاك جدتى ؟"
قالت لى : "أسمع يا سعد "
"هذة وصيتى لك .. شجيرات جدك وصديقى العجوز ...هم نحن .. ونحن هم ..."  "تذكرنى "
أحتضنتنى .. وفلتت من يدى قبضتها .. رفعت كلتهما إلى  السماء .. شاخصة البصر ومبتسمة ..  "حمدا لله ..  أعلم أنك  .. ستأتى "
صرخت "جدتى ..جدتى "
وبيدى ألوح بشارة جدتى ....
فحط حولنا الحمام.. يودع صديقتهم.

إيمان أحمد صالح.مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق